فصل: فصل في تحريم الدخان وذكر مفاسده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

قال بعض العلماء بعد سياقه لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أيها الناس لقد كانت الأمة الإسلامية فيما مضى متمسكة بكتاب الله، عاملة بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، صحيحة في عقائدها، صالحة في أعمالها حسنة في معاملاتها وعاداتها، كريمة في أخلاقها بصيرة في دينها راقية في آدابها وعلومها فكانت عزيزة الجانب، قوية الشوكة، جليلة مهيبة، صاحبة السلطان والصولة على من عداها، واليوم تغير أمرها، وتبدل حالها، اختلت عقائدها وفسدت أعمالها، وساءت معاملاتها وعادتها، وتدهورت أخلاقها وجهلت أمر دينها ودنياها وتأخرت علومها وصنائعها فصارت ذليلة الجانب، ضعيفة الشوكة، ساقطة الكرامة، فاقدة الهيبة مغلوبة على أمرها، متأخرة في مرافق حياتها تتخبط في ظلمات الجهل، وتنقاد للخرافات والأوهام، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وما ذلك إلا لأنها خالفت كتاب ربها، وانحرفت عن طريق الهادي نبيها، وسارت وراء هواها، وفتنت بزخارف الحضارة المزيفة، والمدنية الكاذبة وظنت الإباحية حرية والخلاعة رُقِيًّا، فتعدت حدود الدين والعقل.
وأغضبت خالق الأرض والسماء فساءت حالها، وسلط عليها عدوها، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أيها الناس لقد ذاقت الأمة وبال أمرها، وعوقبت بشر أمالها، وتجرعت مرارة الذل والهوان، والتفرق والإنحلال، كل ذلك نتيجة لازمة لعدم استقامة الأمة، وانحرافها عن الصراط المستقيم {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} كل ذلك نازل بنا وواقع علينا، ونحن لا نفيق من سكرتنا، ولا ننتبه من غفلتنا، ولا ننزجر بالمحن والبلايا، ولا نعتبر بحوادث الأيام فلو كانت لنا نفوس حية وقلوب يقظة وشعور حي وإحساس قوي، لنبهتنا البلايا، وأيقظنا المؤلمات، أيها المسلم: الدين عقيدة صحيحة، وعبادة قوية، ومعاملات حسنة عادلة، وأخلاق كريمة، فانظروا وفكروا، وفتشوا علي أنفسكم، هل أنتم سائرون في أعمالكم وأحوالكم علي منهج الصراط المستقيم، أم أنتم منحرفون عنها، فألزموها السير على الطريق القويم، وفقنا الله وإياكم للأستقامة، وأمننا وإياكم من أهوال يوم القيامة، ووقانا وإياكم شر الحسرة والندامة، وغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين، برحمته إنه أرحم الراحمين، صلى الله علي محمد وعلي آله وصحبه أجمعين.

.فصل في تحريم الدخان وذكر مفاسده:

ومما يتأكد اجتنابه والتحذير عنه الدخان، لدخوله في قسم المحرمات، ومن الأدلة على تحريمه قوله تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} ولا يمتري عاقل في دخوله في الخبائث وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام». وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر. وفي الحديث الآخر: «ما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام».
فهذه الأدلة تدل على حرمته، فإنه تارة يسكر، وتارة يفتر، ومن الأدلة المؤيدة لما سبق، أنه ثبت طبيًا أن التبغ يفتر ومن الأدلة المؤيدة لما سبق، أنه ثبت أن التبغ يحتوي على كمية كبيرة من مادة النيكوتين السامة، وأن شاربه يتعرض لأمراض خطرة في بدنه أولاً، ثم تدريجيًا فيضطرب الغشاء المخاطي ويهيج ويسيل منه اللعاب بكثرة، ويتغير، ويتعسر عليه هضم الطعام، وأيضًا يحدث التهابًا في الرئتين، ينشأ عنه سعال، ويتسبب عن ذلك تعطيل للشرايين الصدرية، وعروض أمراض، ربما يتعذر البرء منها وما يجتمع على باطن القصبة من آثار التدخين، يجتمع مثله على عروق القلب، والقلب يضغط على فتحاته فيحصل عسر في التنفس، ويؤثر على القلب بتشويش انتظام دقاته، وربما أدى بشاربه إلى الموت، فيكون شاربه قد تسبب لقتل نفسه وقتل النفس محرم من الكبائر قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} وقال ع: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدَا».
ومن الأدلة على تحريمه أنه إسراف، وليس فيه مباح، بل هو محض ضرر، بإخبار أهل الخبرة من شاربيه وغيرهم، وقد حرم الله الإسراف، وأخبر جل وعلا أنه لا يحب المسرفين قال تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}.
والتبذير هو الذي ينفقه الإنسان في غير طاعة وفيما لا منفعة فيه وقال مجاهد: لو أنفق ماله في الحق ما كان تبذيرَا وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه. وقال ابن عباس: إنفاق المال في غير منفعة. وقال بعضهم: الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى وإن قَلَّتْ. فيتبين لك مما مضى ومما يأتي أن هذا الدخان الخبيث المحرم عين الإسراف والتبذير وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره». وهذا في الجار الذي بينك وبينه جدار وقال فيه أيضًا: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». فكيف بالجيران الطيبين الكرام الكاتبين الذين عن اليمين وعن الشمال قعيد وهم الذين يكتبون الحسنات والسيات فالمدخن يؤذيهم نعوذ بالله من حاله والمفروض أنه يستعمل المسواك طيب الرائحة بدلاً من هذه الشجرة الخبيثة ومن خصائص هذا الدخان أنه ينفر عن الطاعة وعن قراءة القران والمكث في المساجد ومحبة أهل الدين والصلاح الخ.
ونهى الشرع عن إضاعة المال، وكم من حريق التهم نفوسًا وأموالاً، سببه الدخان، وكم من بريء اتصل بشاربه فصار مثله، وكم من ملايين من الأثمان يوميًا تحرق وتتلف في هذا الدخان الخبيث الكريه فنضرب لذلك مثلاً لما يتلف يوميًا من الفلوس بسبب شرب الدخان، فإذا كانت الدولة عشرين مليونًا، وثلاثة أرباعهم يشربونه، أي خمسة وسبعون في المائة، وقلنا أدنى مصرف للواحد يوميًا في الدخان ريال، فمعناه أن الذي يتلف على الجميع يوميًا خمسة عشر مليونًا من الريالات وفي الشهر يكون الذي يتلف في سبيل هذا الدخان الخبيث أربعمائة وخمسين مليونًا، وفي السنة خمسة آلاف مليون وأربع مائة مليون من الريالات. نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منه ومن سائر المعاصي اللهم صل على محمد وآله وسلم ومن الأدلة على تحريم الدخان كون رائحته كريهة، تؤذي الناس الذين لا يستعملونه، وتؤذي الكرام الكاتبين، وتؤذي المعقبات، وبالخصوص أذيته في مجامع الناس، كاجتماعهم لصلاة الجماعة، ولصلاة التراويح، إن وجد من شاربيه أحد يصلي التراويح، وكذا يؤذي زملاءه، إن كان أستاذًا أو كان تلميذَا، ويؤذي زوجته، ويسري إلى أولاده، لأنه إذا شربه عنده صار تعليمًا فعليًا لهم، وما نالهم من الضرر الناشئ عن الدخان الذي صار هو السبب في شربهم له فلا يسلم والله أعلم من الإثم، وكذلك يسري لقرابته وأصدقائه، وجيرانه وزملائه أحيانًا، وإيصال الضرر إلى المسلم حرام، وأذيته حرام وقد ورد عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته». وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس». وفي الحديث الآخر:
«من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله». وأذية المسلم محرمة، ومن المعلوم عند كل عاقل منصف، أن رائحة الدخان، لا تقل كراهتها وأذيتها عن كراهية رائحة الثوم والبصل والكراث. بل هي عند بعضهم أعظم كراهة وهذا الدخان من العادات القبيحة، المضرة بالشارب وغيره فترى الشاب تميل نفسه إليه، ويميل به هواه إلى مشابهة غيره في تعاطيه، وربما عدة تظرفًا، وظنه مدنية وترفًا، فإذا قدم له أحد زملائه أو أترابه أو غيرهم هذا الدخان لأول مره، وبدأ يستنشق دخانه السام، ولا يلبث إلا قليلاً حتى يأخذ في الإكثار من تناول هذا السم الناقع، فيصبح له عادة لا يستطيع إلى تركها سبيلا، وإذا طال الزمن، ومكث على ذلك مدة: استحكمت في نفسه هذه العادة القبيحة السيئة، وبدأت صحته تضعف، وقوته تنقص، وشهيته للطعام تقل، ورغبته في المشي وما يقوي البدن تضعف، وإذا ذلك الوجه الناظر الحسن المشرق، وذلك الجسم الممتلئ عافية، والشباب الغض قد تغير وعراه الذبول، وتمكن منه النحول، فترى جلده يسترخي، وبصره يضعف، وسمعه كذلك يضعف، وقوة الشهوة تضعف جدًا، وعقله يضعف بإذن الله تبعًا للجسم، ويصبح بعد غضارته ونضارته ذابلاً، وجسمًا ناحلاً، يأخذه سعال مؤلم، ويحس بخفقان قلبه، ودقه وفتور جسمه، ويتمنى بعد ذلك لو يقاسمه إنسان ماله، ويتسبب له في منعه من هذه العادة السيئة الخبيثة، ولكن أنى له بذلك، هيهات إلا أن يشاء الله جل وعلا، فالله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ثم هذا الشارب للدخان يفقد بشاشته ويحرم صفاء نفسه، وقوة فكره، فتتغير أخلاقه وتتبدل صفاته، وتراه إذا أعوزه الدخان أحيانًا، يذهل نفسه وينكس رأسه كأنما هو في هم ناصب، وعناء وتعب، وقد تتغير سجاياه، فإذا ذلك الحليم الهادئ الأعصاب، غضوب جموح، وإذا ذلك الساكن هائج وثائر، يظهر منه فلتات كلام، يتعجب منها من يعرفه أولاً، وتراه يلجأ إلى تناول الدخان، لتسكين غضبه، وتهدئة ثائرة نفسه. فعلى العاقل أن يبتعد عن هذا وأمثاله من الفسقة قال بعضهم:
تَبَاعَدْ عَن الْفُسَّاقِ لا تَقْرَبَنَّهُمْ ** فَقُرْبُهُمُ يُعْدِي الصَّحِيحْ وَيُعْطِبُ

فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ صَارَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمُوا ** أَخَا عِلَلٍ مِمَّا بِهِمْ فَهُوَ أَجْرَبُ

آخر:
صَاحِبُ أَخَا الدِّينِ كَيْ تَحْظَى بِصُحْبَتِهِ ** فَالطَّبْعُ مُكْتَسَبٌ مِنْ كُلِّ مَصْحُوبِ

كَالرِّيحِ آخِذَةٌ مِمَّا تَمُرُّ بِهِ ** نَتْنًا مِنَ النَّتْنِ أَوْ طِيبًا مِنَ الطِّيب

وختامًا فعلى الإنسان أن يتعاهد أبناءه، وكذلك على المعلم أن بتعاهد الطلاب بالنصح والتحذير من هذا الوباء الفتاك، وعليه أن يراقبهم في كل وقت، وبالأخص في أوقات الفراغ، وأن يحرص كل الحرص على أنهم لا يتصلون بمن يشرب الدخان ليحفظ عليهم صحتهم وراحتهم، ويدفع عنهم شر هذا المرض ويصون أموالهم عن الضياع حتى إذا عقلوا عرفوا لوليهم ذلك الجميل الذي أسداه إليهم.
تُعَالِجُ بِالتَّطَبُّبِ كُلِّ دَاءٍ ** وَلَيْسَ لِدَاءِ ذَنْبِكَ مِنْ عِلاجِ

سِوَى ضَرَعٍ إِلَى الرَّحْمَن ِمَحْضٍ ** بِنِيَّةِ خَائِفٍ وَيَقِينِ رَاجِ

وَطُولِ تَهَجُّدٍ بِطُلابٍ عَفْوٍ ** بِلَيْلٍٍ مُدْلِّهِمِ السِّتْرِ دَاجِ

وَإِظْهَارِ النَّدَامَةِ كُلَّ وَقْتٍ ** عَلَى مَا كُنْتُ فِيهِ مِن اعْوِجَاجِ

لَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ غَدًا عَظِيمًا ** بِبُلْغَةِ فَائِزٍ مَسْرُورِ نَاج

اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصدقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل:
سئل الشيخ عبد الله بن محمد رحمه الله عن التنباك الذي اعتاد شربه كثير من الناس؟ فأجاب رحمه الله: لا ريب أن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وهي من خصائصه التي خصه الله بها من بين الأنبياء، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذكر خصائصه: «وأوتيت جوامع الكلم». وهي أن يقول الكلمات اليسيرة، الجامعة لأحكام كثيرة، لا تعد ولا تحصى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام». فدخل في هذه الكلمة جميع المسكرات، التي وتزيل العقل، من الأطعمة والأشربة الموجودة في زمانه والحادثة بعده صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المسكر وهو الخمر الذي يغطي العقل ويزيله، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام». ولفظ مسلم: «وكل مسكر حرام». وعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع؟ فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام». وفي رواية لمسلم: «كل شراب مسكر حرام». ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته وأنه أثبت شيء في تحريم المسكر، وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره، إذا تقرر هذا. فاعلم أن المسكر الذي يزيل العقل نوعان: أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب. قال العلماء: وسواء كان من حب أو من تمر أو لبن أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق العنب أو غيرها، مما يؤكل لأجل لذته وسكره. والثاني: ما يزيل العقل ويسكر، ولا لذة فيه ولا طرب، كالبنج ونحوه، وأكثر العلماء الذين يرون تحريم ما أسكر كثيره، يرون حد من شرب ما يسكر كثيره، وإن اعتقد حله متأولاً، وهو قول الشافعي وأحمد.
قال: وبما ذكرنا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم يتبين لك بيان تحريم التَّتِنِ الذي كثر في هذا الزمان استعامله وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة أسكاره في بعض الأوقات، خصوصًا إذا أكثر منه، أو تركه يومًا أو يومين لا يشربه ثم شربه فإنه يسكر ويزيل العقل، حتى إن صاحبه يحدث عند الناس ولا يشعر بذلك، نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس، فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس إذا تبين له كلام الله، وكلام رسوله في مثله من المسائل، وذلك لأن الشهادة بأنه رسول الله تقتضي طاعته وأن لا يعبد الله إلا بما شرع وأن يقدم أمره على قول كل أحد من الناس.
وقال رحمه الله: والذي يشرب التنباك إن كان شربه له بعد ما عرف أنه حرام فيضرب ثمانين جلدة، ضربًا خفيفًا ما يضره، فإن كان شربه وهو جاهل فلا حد عليه، ويؤمر بالتوبة والاستغفار، والذي يقول لكم من علماء تهامة إن التِّتِنَ ليس حرامًا ولا حلالاً فهذا جاهل ما يعرف ما يقول، ولا يلتفت لقوله وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام». «وما أسكر كثيره حرم قليله».
وأجاب أيضًا: إذا شهد اثنان على ريح التِّتِنِ من فم رجل جلد ثمانين جلدة.
وأجاب أيضًا: وأمَّا شارب التِّتِنَ إذا شهد عليه شاهدان أنهم رأوه يشربه فيجلد أربعين جلدة.
وأجاب أيضًا: وأما شارب التِّتِنِ فيؤدب بأربعين جلدة، فإن لم ينته بذلك أدب بثمانين.
وأجاب أيضًا: والذي زرع التنباك يؤدب، أو يوجد في بيته أو متاعه أو يشربه يؤدب.
وأجاب أيضًا: إذا شهد اثنان على ريح التتن من فم رجل يحد، لأن الصحابة رضي الله عنهم حدوا على ريح الخمر، وهذا خمر، لأنه مسكر خمر وكل مسكر خمر.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن التِّتِنِ؟ فأجاب: هو حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر». وفي لفظ: «حرام». وفي لفظ: «ما أسكر كثيره، فملء الكف منه حرام وهذا عام في كل مسكر». فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وقد نص العلماء على ذلك.
وسئل عن شارب التنباك؟ فأجاب: وأما شارب التنباك فيجلد أربعين جلدة.
وقد سئل الشيخ عبد الله أبا بطين عن التنباك؟ فأجاب بقوله: الذي نرى فيه التحريم، لعلتين: أحدهما: حصول الأسكار فيما إذا فقده شاربه مدة ثم شربه، أو أكثر منه، وإن لم يحصل إسكار حصل تخدير وتفتير، وروى الإمام أحمد حديثًا مرفوعًا أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن كل مسكر ومفتر. والعلة الثانية: أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده.
واحتج العلماء بقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه، كالجعل لا يستخبث العذرة وكالخنزير يترك الطيبات ويأكل النجاسات وكالهدهد يأكل العذرة.
وأجاب الشيخ خالد بن أحمد بن أحمد من فقهاء المالكية بقوله: لا تجوز إمامة شارب التنباك، ولا يجوز الاتجار به ولا بما يسكر.
وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر الشيخ أحمد السنهوري البهوتي الحنبلي، وشيخ المالكية اللقاني، ومن علماء دمشق النجم الغزي العامري الشافعي، ومن علماء اليمن الشيخ إبراهيم بن جمعان، وكثير من العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، كالشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، وعلماء كثيرون يطول علينا تعدادهم، فنكتفي بمن ذكرنا، ومن أراد زيادة على هؤلاء فليسأل، ولا أظن يفتي بحله عالم عاقل، يعلم مضاره دِينِيًّا واقتصاديًا واجتماعيًا وخلقيًا وصحيًا، بل ولا أظن عالمًا يتوقف بالقول بتحريمه، حتى ولو أنه ممن ابتُلِيَ بشربه لوضوح مضاره، وبالأخص لشرابه، وان شككت فاسأل منصفيهم يخبرونك ويحذرونك، اللهم اعصمنا من جميع المعاصي، وامنن علينا يا مولانا وجميع المسلمين بالتوفيق للعمل الصالح، والاستقامة على الطريق، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يأرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
وقال في تبصرة الإخوان: وقد أشغل جهايذة الأطباء قوة أفكارهم، ودققوا النظر غاية في اكتشاف أضرار التبغ بنوعيه المعلومين، وشحذوا أقلامهم في بيان ما ظهر لهم فيه، بعد التحقيق والتدقيق التَّامَّيْنِ، فذكروا أولاً أنه من الفصيلة الباذنجانية التي تشتمل على أكثر النباتات السامة، كالبلادوتا والبرش والبنج، قالوا: وهو نوعان، توتون وتنباك، ولا يختلف أحدهما عن الآخر في تركيبه الكيماوي إلا قليلا، فانهما مركبان من أملاح البوتاس والنوشادر، ومن مادة صمغية، ومادة أخرى مرة حريقة، تسمى نيكوتين. قالوا: وهي سم من أشد السموم فعلاً، بحيث أنه لو وضعت نقطة منها على لسان كلب لمات في أقرب زمن، مع أن الكلب أقوى تحملاً للسموم من الإنسان، ومن سائر أنواع الحيوان، وذكروا أن الدخان الذي يتصاعد عن أوراق التبغ المحترقة، يحوي كمية وافرة من المادة السامة هي النيكوتين، فإذا دخل الفم والرئتين أثر فيهما تأثيرًا موضعيًا وعموميًا لأنه عند دخوله الفم توتر المادة الحريقة السامة التي فيه- وهي النيكوتين- في الغشاء المخاطي فتهيجه تهيجًا قويًا، وتسيل منه كمية زائدة من الطعام وتغير تركيبة الكيماوي، بحيث، تقلل فعله في هضم الطعام وكذلك تفعل في مفرز المعدة، مثل ما فعلت في مفرز الفم، فيحصل حينئذ عسر في مفرز الهضم، وعند وصول الدخان إلى الرئتين على طريق الحنجرة، تؤثر فيها التهابًا قويًّا مزمنًا، فتهيج السعال حينئذ، لإخراج ذلك المفرز الغزير، الذي هو البلغم المعروف ويتسبب عن ذلك تعطيل الشرايين الصدرية وعروض أمراض صدرية يتعذر البرء منها.
وبالجملة فقد تحقق عن عامة المحققين، من أئمة الطب، أن مضار الدخان- أعم من أن يكون توتونًا أو تنباكًا- كثيرة، قالوا: ويشعر بأعراضها الجزئية كل من يباشر استعماله قبل الاعتماد عليه، وهي دوران وغثيان، وقيء وصداع، وارتخاء العضلات أي الأعصاب، ثم سبات أي راحة وهو كناية عن حاله التخدير الذي هو من لوازم التبغ، وما ذكر من الأعراض الناشئة عنه، في بدء استعماله قبل الأعتماد عليه، لما يحويه من المادة السامة التي هي النيكوتين، ويجد فساد الذوق وعسر الهضم، وقلة القابلية للطعام وهذه الأشياء كلها تحدث من تخلل الدخان في اللعاب، فيسبب اضطرابًا معديًّا، وكثيرًا ما يحدث المرض المعروف بالبيروسس، وهو الحرقة المعدية، وهذا كله في استعماله على سبيل القلة والإعتدال، وأما الإكثار منه فهو مفض إلى عطب ليس له زوال، ومن المعلوم الثابت شرعًا أن كل ما أضر بالصحة يحرم تعاطيه قطعًا، ولذلك حرم الأكل فوق الشبع، وأكل الطين، لما فيهما من الأضرار بالصحة، قال عليه الصلاة والسلام: «من أكل الطين فكأنما أعان على قتل نفسه». وفي رواية: «فإنما أعان على قتل نفسه». وليس التدخين أقل ضررًا من أكل الطين، بل هو أشد ضررًا منه بكثير، قال: وقد سألت عدة من الأطباء الموثوقين بهم عن تفاوتهما في الضرر؟ فأجابوا: بأنه لا نسبة بينهما في الضرر تفاوتًا كليًا، حيث أن الجزء الفعال، الذي ينشأ عن التدخين وهو النيكوتين، لا يعادله شيء في الأضرار، كما هو ظاهر لدى الامتحان، فيكون نهي الشارع صلى الله عليه وسلم عن أكل الطين، لما فيه من الضرر، شاملاً لفعل التدخين بالأولوية حيث كان الضرر فيه أشد وأعظم، كما علمته، قال: وقد ذكر جمع من أكابر العلماء وجهابذة الأطباء: أن من العقل- فضلاً عن الشرع- وجوب اجتناب التدخين، حفظًا للصحة التي هي من الله تعالى منة ومنحة، ودفعا لدواعي الضعف الذي هو من مقدمات الهلاك والدمار، كما هو معلوم لذوي الأستبصار كيف وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} على أنه لا يقتصر ضرر التدخين على المدخن وحده، بل يعم حلساءه في المكان، لأنه يفسد الهواء، فيتعين الفرار حينئذ من الجلوس في أماكن التدخين، ولاسيما إذا كانت مغلقة الأبواب. قالوا: ويسري الضرر أيضًا إلى نسله، فيجعله ضعيف البنية، شاحب اللون، فاسد المزاج، لتمكن سم التبغ في جسم الوالد أما سريان الضرر قبل الولادة، فيما إذا كانت الأم تشرب أيضًا كالأب، فمن تغذيته حال كونه جنينًا، من دم أمه الفاسد بسم التبغ، الذي هو النيكوتين، حيث أنه يفعل على الحويصلات العصبية فعلاً مؤثرًا، يتصل بالجنين.
وأما سريان الضرر عليه بعد الولادة، فمن ثلاث جهات:
أحدهما: تَغَذِيهِ من اللبن المتحمل سموم التبغ، المفسدة للمواد الغذائية.
ثانيها: استنشاقه الهواء الفاسد بتدخين الأبوين أو أحدهما.
ثالثهما: صيرورة الأبوين سببًا حاملاً للولد على سلوك تلك العادة الوخيمة، وذلك لأن الطفل من طبعه التقليد والتشبه بمن يراه، فإذا نظر أبويه يدخنان، وعلى فرض أنهما ينهيانه عن ذلك فنظر لكونه لا يفهم سر النهي لا ينتهي من غير مبالاة، إلى أن يصير التدخين عادة لازمة، فإذا اعتاد هذا المسكين التدخين من مبدأ نشأته، فهناك الطامة الكبرى، والبلية العظمى، لأنه لا يلبث قليلاً إلا ويشكو من قلة القابلية ووجع الصدر، ويصحبه أيضًا سعال قوي، مزعج للصدر، ولا يزال يزداد ضعفًا على ضعف، وسقمًا على سقم إلى أن يمضي عمره في الأسقام والآلام. والله أعلم.
اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر هادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل:
قَالَ: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ عَادَةَ التَّدْخِينِ مِنْ أَقْبَحِ العَوْائِدِ، لأنَّهَا تَسْتَبْعِدُ مُتَّبِعِيهَا، وَتُقَيِّدُهُمْ بِسَلاسِلَ وَأَغْلالٍ، بِحَيْثُ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّخَلُّصَ لا يَجْدُونَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلا، وَهِيَ عَادَةٌ لَوْ لَمْ يَتَّبِعْهَا الإِنْسَانُ في زَمَنِِ صِبَاهُ- الذِي هُوَ زَمَنُ جَهْلِهِ، وَعَدْمِ تَبَصُّرِهِ بِالعَوَاقِبِ-، لَكَانَتْ قَلِيَلةً جِدًا بَيْنَ أَفْرَادِ النُّوعِ الإِنْسَانِي وَالبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَرَاهُ مِنْ غَيْرِ المُدَخِّنِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَبَّ وَصَارَ بِتَمَامِ التَّمْيِيزْ، وَتَحَقَّقَ مَضَارَّ الدُّخَانِ الصِّحِّيَّةِ وَالمَاليةِ، وَالأَخْلاقِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، عَنْ طَرِيقِ الاسْتِقْصَاءِ وَالنَّظَرِ أَوْ عَنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَالخَبَرِ، حَمِدَ اللهَ تَعَالَى حَمْدًا كَثِيرًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ تِلْكَ العَادَةِ الوَخِيمَةِ، وَمَنْ تَكُنْ هَذِهِ حَالَتُهُ فَإِنَّهُ يَتَبَاعَدُ بِلا شَكِّ عَنِ السُّلُوكِ فِي هَذَا الطَّرِيق، الذِي يوصِّلُهُ إِلَى فِرَاشِ التَّمْرِيضِ، بِسَلْبِ الصِّحَّةِ التي يُقَدَّرُ قَدْرُهَا.
قَالَ: هَذَا وَإِنَّ التَّعَوُّدَ عَلَى التَّدْخِينِ لا يَحْصَلُ غَالبًِا إِلا فِي أَيَّامِ الصِّبَا، كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفَا، حَيْثُ يَكُونُ الإِنْسَانُ حِينَئِذٍ بِتَمَامِ الاسْتِعْدَادِ لِلتَّقْلِيدِ فِيمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْ سِوَاهُ، فَتَرَى الصَّبِيَّ يُدَخِّنُ تَشَبُهًا بِغَيْرِهِ، رَغْمًا عَنِ اسْتِكْرَاهِهِ لِرَائِحَةِ الدُّخَانِ، وَمَرَارَةِ طَعْمِهِ مُتَكَلِّفًا تَحَمُّلَ أَثْقَالِ أَعْرَاضِهِ المُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ، مِنْ دَوَرَانِ الرَّأْسِ وَصُدَاعِهِ، وَغثَيَانِ الصَّدْرِ وَأَوْجَاعِهِ فَإِذَا تَعَوَّدَهُ بَعْدَ طُولِ المُكَابَدَةِ، وَتَحَمُّلِ المَشَاقِ وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ لا يَجِدُ لَهُ غِنَىً عَنْ تَعَاطِيهِ، لَكِنَّهُ كُلَّمَا كَبُرَ سِنُّهُ وَزَادَ لا يَقْرِنُ القَوْلَ بِالفِعْلِ، إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ الدَّاءُ، وَيَصِلُ إِلَى حَالَةٍ لا يَنْفَعُهُ الدَّوَاءُ فَيْبَقَى هَذَا المِسْكِينُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فِي مُقَاسَاتِ الآلامِ وَشِدَّةِ الأَسْقَامِ، يَغْبِطُ الأَصِّحَّاءِ عَلَى التَّوَسّدِ فَي الفِرَاشِ، وَطِيبِ المَنَامِ وَيُكْثِرُ مِنَ التَّأَوُّهُ وَالأَنِينِ، وَيَتَأَسَّفُ عَلَى فَقْدِ الصِّحَّةِ التِي بَاعَهَا بِلَذَّةِ التَّدْخِينِ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ، وَالفِرَارَ الفِرَارَ مِنْ لَذَّةٍ تُوجِبُ البَوَارَ وَالدَّمَارَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الدِّرَايَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ مِنْ أَطِبَّاءِ الزَّمَان، مَا نَصُّهُ: أَمَّا التَّدْخِينُ بِالتُوتُن والتِّنْبَاكِ فَإِنَّهُمَا مُحْتَوِيَانِ عَلَى مَادَّةٍ سُمِّيَّةٍ عَظِيمَةِ التَّأْثِيرِ، تُسَمَّى نِيكُوتِينْ، فَلَوْ استُخْلِصَتْ وَحْدَهَا، وَجُرِّبَ فِعْلُهَا، بِوَضْعٍ جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْهَا عَلَى لِسَانِ كَلْبٍ لَقَتَلَتْهُ حَالاً بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ، وَهَذَا السُّمُّ تَحْتَ رِدَاءٍ رَقِيقٍ، بِوَاسِطَةِ التَّدْخِينِ المُسْتَعْمَلِ عُمُومًا، وَقَدْ قِيلَ:
تَرُومُ الشَّهْدَ مِنْ أَنْيَابِ أَفْعَى ** وَطَعْمَ الدِّبْسِ مِنْ مُرٍّ غَرِيزِي

كِلا الأَمْرَيْنِ لَمْ يَطْلُبْهُ إِلا ** جَهُولُ جَهْلُه المُرْدِي غَرِيَزِي

لِذَاكَ سَرَيْت بِالإِفْسَادِ تَرْجُو ** صَلاحَ الحَالِ مِنْ مَلِكٍ عَزِيزِ

رُوَيْدَكَ غَرَّكَ الشَّيْطَانُ حَتَّى ** ضَلَلْتَ عَنِ الحَقِيقَةِ يَا عَزِيزِي

إِذَا رُمْتَ الصَّلاحَ أَنِبْ لِرَبٍّ ** تَفُزْ بِالخَيْرِ وَالحِرْزِ الحَرِيز

آخر:
إِنَّ الأَفَاعِي وَإِنْ لانَتْ مَلامِسُهَا ** عِنْدَ التَّقَلُّبِ فِي أَنْيَابِهَا العَطَبُ

فَمِنْ مَضَرَّاتِهِ الكُلِّيَّةِ: تَخْرِيبُ كُرَيَّاتِ الدَّمِ، وَمِنْهَا التَّأْثِيرُ عَلَى القَلْبِ، وَمِنْهَا مُعَارَضَتُهُ لِشَهْوَةِ الطَّعَامِ، وَمِنْهَا انْحِطَاطُ القُوَى العَصَبِيَّةِ عَامَّةً، وَيَظْهَرُ هَذَا بِالخُدُورِ وَالدَّوَرَانِ الذِي يَحْصُلُ حُدُوثُهُ عَقِبَ اسْتِعْمَالِ التَّدْخِينِ لِمَنْ لَمْ يَأْتَلِفَهُ، وَلِمَنْ كَانَ مُؤْتَلِفًا وَانْقَطَعَ عَنْهُ مُدَّةَ عَشْرِ سَاعَاتٍ تَقْرِيبًا، وَمِنْ مَضَرَّاتِهِ إِحْدَاثِهِ لِلْجُنُونِ التُّوتُونِيّ.
قَالَ: وَقَدْ اطَّلَعْتُ عَلَى رِسَالَةٍ لِلْمُحَقِّقِ مُحَمَّد فِقْهِي العَيْنِيَ نَزْيلُ الأسِتَانَة العَلِيَّةْ، وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الحَنَفِيَّةِ، ذَكَرِ فِيهَا تَحْرِيمُ الدُّخَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُه: كَوْنُهُ مُضِرًا بِالصِّحَّةِ بِأَخْبَارِ الأَطِبَّاءِ المُعْتَبَريْنَ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذِلَكَ يَحْرُمُ اسْتِعْمَاله اتِّفَاقًا.
ثَانِيهَا: كَوْنُهُ مِنَ المُخَدِّرَاتِ المُتَّفَقُ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ، المَنْهِيّ عَنِ اسْتِعْمَالِهَا شَرْعًا، لِحَدِيثِ أَحْمَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِر وَمُفَتِّرٍ، وَهُوَ مُفَتِّرٌ بِاتِّفَاقِ الأَطِبَّاءِ، وَكَلامُهُمْ حٌجَة فِي ذَلِكَ وَأَمْثَاله، سَلَفًا وَخَلَفًا.
ثَالِثُهُمَا: كَوْنُ رَائِحَتِهِ الكَرِيهَةِ تُؤذِي النَّاسَ الذِينَ لا يَسْتَعْمِلُونَهُ، وَعَلَى الخُصُوصِ في مَجَامِعِ الصَّلاةِ وَنَحْوِهَا بَلْ وَتُؤْذِي المَلائِكَةَ المُكَرَّمِينَ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانُ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ جَابِرِ بِن عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفوعًا: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدنَا، وَلْيَقْعُد في بَيْتِهِ». وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَائِحَة التَّدْخِينِ لَيْسَتْ أَقَلَّ كَرَاهَةً مِنْ رَائِحَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الثُّومِ وَالبَصَلِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إَنَّ المَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ»، وفي الحَدِيثُ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ آذَى مُسْلِمًا فَقَدْ آذَنِي، وَمَنْ آذَنِي فَقَدْ آذَى اللهَ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
رَابِعُهَا: كَوْنُه سَرَفًا إِذْ لَيْسَ فِيهِ نَفَعٌ مُبَاحٌ، بَلْ فِيهِ الضَّرَرُ المُحَقَّقُ، بِإِخْبَارِ أَهْلِ الخِبْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحُرْمَةَ مَا فِيهِ السَّرَفُ وَالضَّرَرُ، ثَابِتَةٌ شَرْعًا وَعَقْلاً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلاً.
قَالَ: وَقَدْ نَصَّ فِي نِصَابُ الاحْتِسَابَ وَغَيْرِهِ مِنَ المُعْتَبَرَاتِ الفِقْهِيَّةِ عَلَى: أَنَّ اسْتِعْمالَ المُضِرِّ حَرامٌ اتفاقًا.
قَالَ: وَقَالَ العَلامَةُ أَحْمَدُ العَبجِيّ الحَلَبِيَ في كِتَابِ الأَشْرِبَةِ مِنْ شَرْحِهِ عَلَى الدُّرِّ المُخْتَارِ، شَرْحُ تَنْوِيرِ الأَبْصَارِ بَعْدَ نَقْلِ الشَّارِحِ تَحْرِيمُ الدُّخَانِ عَنْ شَيْخِهِ النَّجْمُ الغَزِّيْ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَحْرِِيمِه في رِسَالَةٍ لَمْ تُسْبَقْ بنَظِير، أَدْخَلْنَا تَحْرِيمَهُ فِيهَا تَحْتَ الأُصُولِ الأَرْبَعَةِ، وَرَدَدْنَا كُلَّ مَا نَافَاهُ مِنْ كَلامِ الغَيْرِ رَادًّا جَامِعًا مَانِعًا، مُؤيَّدًا بالحُجَجِ.
اللَّهُمَّ الْهِمْنَا ذِكْرِكَ وشُكْركَ وَوَفِقْنَا لِطَاعَتِكَ وامْتِثَالِ أَمْرِكْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
يَا مَنْ يَرُومُ التُّقَى مِنْ كُلِّ مَأْثَمَةٍ ** اسْلكْ سَبِيلَ الهُدَى وَامْشِ عَلَى السُّنَنِ

وَلا تَحُدْ أَبَدًا عَنْ ذِي الطَّرِيقِ تَفُزْ ** وَخَالِفَ النَّفْسَ وَاقْهَرْهَا عَنِ المِحَنِ

إِيَّاكَ مِنْ مِحْنَةٍ تُلْقِيكَ فِي عَطَبٍ ** لاسِيَّمَا مَا فَشَى فِي النَّاسِ مِنْ تُتُنِ

مُخَدرٌ الجِسْمِ لا نَفَعٌ بِهِ أَبَدَا ** بَلْ مُورِثُ الضُّرِّ وَالأَسْقَامِ فِي البَدَنِ

وَحَيْثُ قَدْ ثَبَتَتْ هِذِي الصِّفَاتُ لَهُ ** فَاجْزِمْ بِتَحْرِيمِهِ إِنْ كُنْتَ ذَا فِطَنْ

وَإِنْ تُرِدْ ثِقَةً فِيمَا أَقُولُ فَسَلْ ** بِهِ الخَبِيرَ تَنَلْ مِنْ عِلْمِهِ الحَسَن

وقال آخر:
كَمْ في الدُّخَانِ مَعَائِبٌ وَمَكَارِهٌ ** دَلَّتْ رَذَائِلُهُ عَلَى إِنْكَارِه

سَأُرِيكَ بَعْضًا مِنْ مَعَائِبِ شُرْبِهِ ** يَا صَاحِبي أَحْبَبَتْنِي أَمْ كَارِهِ

يُؤْذِي الكِرَامَ الكَاتِبِينَ بَنَتْنِهِ ** وَأَمَاَم وَجْهِكَ شُعْلَةٌ مِنْ نَارِهِ

كَمْ مِنْ نُقُودٍ يَا فَتَى وَملابِسٍ ** أَتْلَفْتَهَا بِشَرَائِهِ وَشَرَارِهِ

وَبِهِ الثَّاَنيَا اللؤْلُؤِيَّةِ أُفْسِدَتْ ** بِقَبِيحِ لَوْنِ سَوَادِهِ وَصَفَارِهِ

كَانَتْ كَمِثْلِ الدُّرِ حُسْنًا شَانَهَا ** مِنْ نَفْخِهَا الشِّدْقَيْنِ فِي مِزْمَارِهِ

وَتَرَا الصَّفَارَ عَلَى شَوَارِبِهِ بَدَا ** مِنْ جَذْبِهِ الدُخَانَ مِنْ مِنْخَارِهِ

وَتَرَى الذِي فِي شُرْبِهِ مُتَوِلِهًا ** يَلْتَذُّ فِي الصُّهْرُوجِ بِاسْتِكْثَارِهِ

وَتَرَا الهَوَامَ إِذَا أَحَسَّ بِرِيحِهِ ** تَرَكَ المَكَانَ وَفَرَّ مِنْ أَوْكَارِهِ

وَالنَّحْلُ لا تَلْوِي إليه لِخُبْثِهِ ** أَبَدًا وَلا تَدْنُو إِلَى أَزْهَارِهِ

وَلِنَتْنِهِ وَلِقُبِحِهِ فِي طَعْمِهِ ** لَمْ تَدْنُ سَائِمَةٌ إِلَى أَشْجَارِهِ

إِنْ خَالَطَ المَأْكُولُ مِنْهُ دُرَيْهِمٌ ** غَلَبَتْ خَبَائِثُه عَلَى قِنْطَارِه

وَإِذَا تَنَاوَلَ سَاخِنًا مِنْ مَأْكَلٍ ** سَالَ أَنْفُهُ وَأَنِفْتَ مِنْ أَقْذَارِهِ

فَإِنْ انْتَهَيْتَ وَمَا أَظُنَّكَ تَنْتَهِي ** وَرَغِبْتَ عَنْهُ نَجْوَتَ مِنْ أَوْعَارِهِ

وَأَرَحْتَ نَفْسَكَ مِنْ عَنَا تَحْصِيلِهِ ** وَحَفِظتَ مَالَكَ مِنْ مُصَابِ خَسَارِه

وقال آخر:
يَا شَارِبَ التِّنْبَاكِ مَا أَجَرَاكَا ** مَن ذَا الذِي فِي شُرْبِهِ أَفْتَاكَ

أَتَظُنَّ أَنَّ شَرَابَهُ مُسْتَعْذَبٌ ** أَمْ هَلْ تَظُنَّ بَأَنَّ فِيِه غِذَاكَا

هَلْ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لَكَ يَا فَتَى ** كَلا فَلا فِيهِ سِوَى إِيَذَاكَا

وَمَضرَّةٌ تَبْدُو وَخُبْثُ رَوَائِحٍ ** مَكْرُوهَةٍ تُؤذِي بِهَا جُلَسَاكَا

وَفُتُورُ جُسْمٍ وَارْتُخَاءُ مَفَاصِلٍ ** مَعَ ضِيقِ أَنْفَاسٍ وَضُعْفِ قُوَاكَا

وَتَلافُ مَالٍ لا تَجِدْ عِوَضًا لَهُ ** إَلا دُخَانًا قَدْ حَشَى أَحْشَاكَا

وَرَضَيْتَ فِيهِ بَأَنْ تَكُونَ مُبَذِّرًا ** وَأَخُو المُبَذِّرِ لَمْ يَكُنْ يَخْفَاكَا

فَإِذَا حَضَرْتَ بِمَجْلِسٍ وَاسْتَنْشَقُوا ** مِنْ فِيكِ رِيحًا يَكْرَهُونَ لِقَاكَا

يَكْفِيكَ ذَمًّا فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ مَن ** قَدْ كَانَ يَشْرَبُهُ يَوَدُّ فِكَاكَا

فَارْفُقْ بِنَفْسِكَ وَاتَّبِعْ آثَارَ مَنْ ** أَهْدَاكَ لا مَنْ فِيهِ قَدْ أَغْوَاكَا

إِنْ كُنْتَ شَهْمًا فَاجْتَنِبْهِ وَلا تَكُنْ ** فِي شُرْبِهِ مُسْتَتْبِعًا لِهَوَاكَا

إِنَّي نَصَحْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِنَصِيحتى ** وَنَهَيْتُ فَاتْبَعْ قَولَ مَنْ يَنْهَاكَا

وَبَذْلَتُ قَوْلِي نَاصِحًا لَكَ يَا فَتَى ** فَعَسَاكَ تَقْبَلُ مَا أَقُولَ عَسَاكَا

وَقَالَ الشَّيْخُ العَلامَةُ الفَقِيهُ مُحَمَّدُ الطَرَابِيشِي الحَلَبِيّ المَالِكِيّ بَعْدَ كَلامٍ لَهُ طَوِيلٍ عَلَى الدُّخَانِ مَا لَفْظُهُ: وَبِالجُمْلَةِ فَقْدَ تَحَرَّرَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَرَّر الحُكْمُ عَلَى الدُّخَانِ المَشْهُورِ بِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ المُخَدَّرَاتِ التِي يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا، وَأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالصِّحَّةِ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ بِالاتِّفَاقِ، وَلِذَلِكَ- أَيْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ مَضَرَّاتِهِ الوَخِيمَةِ- حَرُمَ شُرْبُهُ دِينًا- أَيْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ- عِنْدَ الأَئِمَّةِ المحَققينَ، كَمَا حُرِّمَ طِبًّا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالنَّصُّ عَلَى المَنْعِ مِنْ شُرْبِهِ وَبَيْعِهِ يَقْتَضِي تَحْرِيمهما، إِذْ مُفَاُد الْمَنْعِ التَّحْرِيمُ، وَحَيْثُ حَرُمَ بَيْعُهُ لِحُرْمَةِ شُرْبِهِ، حَرُمَ شِرَاؤُهُ أَيْضًا لأنَّ كُلَّ مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ يَحْرُمُ شِرَاؤُهُ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. فَقِفْ عِنْدَ هَذِه الفُتْيَا لِهَذا المَالِكِيّ، وَعِنْدَ فُتْيَا الحَنَفِيّ التي قَبْلَهَا تَعْرِفُ كَلامَ المُحَقِّقِينَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَى أَهْلِ العِلْمِ.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ فِيهَا وَقَوِّهَا وَأَلْهِمْنَا حَمْدَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَوْلِيَائِكَ وَبُغْضَ أَعْدِائِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.